سفينةُ الشرقِ| ماهر دََعبول
في تلك السفينة التي كانت تبحر محاولة العبور بين شاطئ المغرب العربي نحو شواطئ بلاد الشام، والتي يقودها شخصٌ ذكي حذق ذو يدين قويتين، ومنكبين عريضين، وقوام ضخم.
تجمع الناس من ألوان وأطياف متعددة، الشمس ترسم ظلال الناس كلوحة فنية، ونسائم البحر جعلت الطقس رهيفاً جداً.
الرحلة في البحر الأبيض وعلى ظهر سفينة الشرق، كانت رحلة غنية بالأشخاص والعقول والفنون.
على جانب السفينة الأيمن، كان نزار قباني يجلس وهو ينظر إلى دمشق، ينتظر الوصول ليشتم عبق الياسمين، وهال دمشق القديمة، وقربه فيروز جالسة تشتم العليل القادم من جبال لبنان ،وأشجار الأرز الشامخة ترنو منها.
قال نزار:
- "هل تعلمين أن للمدن أرواح، وأن للأرواح ألوان وأشكال، وهي تظهر دومًاً لمن ينظر بعين قلبه العاشق."
- "صحيح يا نزار، إنََّّنا حين نغني نعري أرواحنا ونتركها للناس كي يغوصوا فينا، فمنهم من يرى ومنهم من لا يرى". (فيروز)
- "حينما أستمع لصوتك الشجي، كنت أظنكِ تغوصين بروحي فقط، وتراكِ تغوصين في أرواح جميع من يسمعون صوتكِ في مساحات الطرب".(نزار)
- "نعم، الكلمة هي السر، إنَّ للكملة سحرٌ يأخذ قلوب الناس ويدمع عيونهم أحياناً، ثم يجعلهم يرقصون تارًةً وتارًةً أخرى يدفعهم للموت وللحياة". (فيروز)
- "كتبت الكثير من القصائد يا فيروز وحدها دمشق كانت قصيدتي الأجمل، وغازلت الشعر لعشرين عاماً، والدمشقية كانت كلامي الأجزل".(نزار)
-"لقد غنيت لَكَ يا نزار مواًلًا دمشقًيًا، ومازالت جماَلَ الكلمات التي تحرك ساكنة روحي. اتلوها عليَّ يا نزار، أحلفك بجمال دمشق". (فيروز)
لقد كتبنا .. وأرسلنا المراسيلا
وقد بكينا .. وبللنا المناديلًا
قل للذين بأرض الشام قد نزلوا
قتيلكم لم يزل بالعشق مقتولًا
يا شام. يا شامة الدنيا، ووردتها
يا من بحسنك أوجعت الأزاميلًًا
وددت لو زرعوني فيك مئذنة
أو علقوني على الأبواب قنديلًا
يا بلدة السبعة الأنهار .. يا بلدي
ويا قميصًًا ِبِزهر الخوخ مشغولًًا
ويا حصاًنًا تخلى عن أعنته
وراح يفتح معلومًا، ومجهولًًا
هواك يا بردى، كالسيف يسكنني
وما ملكت لأمر الحب تبديلًًا
أيام في دمََّّر كنا .. وكان فمي
على ضفائرها .. حفرًًا .. وتنزيلًًا
والنهر يسمعنا أحلى قصائده والسرو يلبس بالساق الخلاخيلا
يا من على ورق الصفصفات يكتبني
شعرًا .. وينقشني في الأرض أيلولًًا
يا من يعيد كراريسي .. ومدرستي
والقمح، واللوز، والزرق المواويلا
يا شام إن كنُتُ أخفي ما أكابده
فأجمل الحب حب - بعد ما قيلا...
- "الله الله يا نزار، نيال الشام عليك". (فيروز)
على الضفة اليسرى من السفينة، كان مصطفى صادق الرافعي يقف يقبض بيده اليمنى على سياج السفينة الحديدي، وبيده الثانية كان يحمل كتاب وحي القلم، وقف بجانبه سيد قطب ،وقال:
- "الفن والأدب الراقي هما السلاح الحقيقي في معركة الإصلاح، لقد تمنيت كثيرًا لو كانت مجتمعاتنا تقرأ، لو كان عندنا الكثير الكثير من الكتب أشباه وحي القلم."
- "الفن هو أحد أهم الأسلحة والأدوات التي تغير المجتمع، ولكن المجتمع يحتاج أمثالك المفكرين المغيرين.
لقد قرأت مؤلفاتك جميعها، وكانت تحمل من الفكر والفلسفة العربية المحضة التي نحتاجها، فلو كان لأمتنا العربية أن تلد بمثلك؛ لكان التغيير سيد الموقف". (الرافعي)
- "أتعرف يا سيد مصطفى لقد قرأت كتابك وحي القلم وأكثر ما أحببته فيه قولك:
"أشد سجون الحياة فكرة خائبة يسجن الحي فيها، لا هو مستطيع أن يدعها، ولا هو قادر أن يحققها؛ فهذا يمتد شقاؤه ما يمتد، ولايزال كأنه على أوله لا يتقدم إلى نهاية؛ ويتألم ما يتألم ولاتزال تشعره الحياة أن كل ما فات من العذاب إنما هو بِدء العذاب."
هذه الكلمات عميقة جدًًا في النفس البشرية، تُنبئ عن خبرتك في الكينونة البشرية، وغوصك العميق فيها". (سيد قطب)
- "نعم يا أستاذ سيد، فالجواهر الأدبية إذا ما مزجت نفسها بالفكر والحقيقة الفلسفية؛ أنتجت درراً تسر الناظرين، وإن الإيمان لأفضل ما يستعين به الكاتب والمفكر في رحلته ومسيرته.
والإيمان كما نقل بالأثر عن الحسن البصري قوله:
(ليس الإيمان بالتمني، ولكن ما وقر في القلب وصدقه العمل.)
في مقدمة السفينة كان هناك طاولة خشبية عتيقة وكرسيان، جلس على أحديهما غسان كنفاني يحتسي قهوته، وعلى الكرسي المقابل له جلست أحلام مستغانمي تشرب كأس من الزهورات الدمشقية، فيظر غسان من شرفة السفينة لترتسِم له فلسطين قلبه في الأفق، وتلمع في عينه من بعيد القبة المذهبة في القدس، بينما كانت أحلام مستغانمي منغمسة في تحريك قطع السكر كعاشقة تدوِّر الشوق بكأس الأماني.
قالت أحلام:
- "يا غسان، مرَّ زمان ومازالت عيناك تحمل الكثير من الحزن، والكثير من الإصرار، هل اشتقت لفلسطين؟."
- "يا جميلة العينين والكلمات ومستغانمية الطلة، أنا لا أشتاق فلسطين، بل فلسطين تجذبني جذبًاً نحوها، وتشدني من قميصي كي أرتد إليها.
الفلسطينيون لا يعيشون كما يعيش باقي سكان هذه الأرض، فكل الناس تجمعهم وبلادهم علاقة الوطن والمواطن، إلا نحن تجمعنا وبلادنا علاقة الوطن المنفى.
يحلم الفلسطيني لو أخذ معه من أرض فلسطين سلة برتقال لا تنضب أبداً يشتم منها رائحة بلاده". (كنفاني)
- "أتعرف؟، للجزائر قدر وثيق يربطها بفلسطين، أعتقد أن فلسطين هي القلب من شرق العرب ،والجزائر قلبٌ فلسطيني أخر ينبض في غربه. فالجزائريون شعب يعشق الحياة ويتجه نحوها كراقص يرقص بنهم رقصة تراثية". (أحلام)
- "أحب رواياتِكِ جدًًا، وأحببت الثلاثية العظيمة؛ لأن عمق العناوين كبير جدًاً ( ذاكرة الجسد ،فوضى الحواس، عابر سرير)
ومن أجمل ما قرأت فيها، بعضًاً من كتاب فوضى الحواس قلتِ فيه:
(سـتتعلمين كيف تتخلين كل مرة عن شيء منِكِ !.
كيف تتركين كل مرة أحدًًا، أو مبدأ، أو حلمًًا.
نحن نأتي الحياة كـمن ينقل أثاثه وأشياءه، محملين بـالمبادئ، مثقلين بـالأحلام، محوطين بـالأهل والأصدقاء.
ثم كلما تقدم بنا السفر، فقدنا شيئاً، وتركنا خلفنا أحدًا، لـيبقى لنا في النهاية ما نعتقده الأهم!
والذي أصبح كذلك؛ لأنه تسلق سلم الأهميات،
بعدما فقدنا ما كان منه أهم.).
فكلامك صحيح يا أحلام، لقد حدث كل هذا مع أمتنا، لقد فقدت وتخلت عن كل الأشياء المهمة وتخلت عن المبادئ وتعلقت بحبال واهية، وسيسقطون حين يحتاجون الاعتصام فيها". (غسان)
- الأحلام التي تبقى أحلامًًا لا تؤلمنا، نحن لا نحزن على شيء تمنيناه ولم يحدث، الألم العميق هو على ما حدث مرة واحدة وما كنا ندري أنََّّه لن يتكرر.
_ جميعنا تمنينا أواطنًًا تلاعبنا وتداعبنا كأم حنون، ولكن أواطننا كانت قاسية جداً علينا وعلى الجميع.
آمُل من السفن القادمة أن تكون أكثر قدرة على قيادة الناس، ليصنعوا من بلادنا حدائق للعشق والسلام والحضارة.
وقف جميع ركاب السفينة على الضفة الخلفية للسفينة، وقد لاح في الأفق أن سفينة أخرى تجهزت للحاق بهم وهي تسير وتترنح، لكنها تسير.
كان لونها براًقًا، وتحمل الكثير من الشباب والزنابق والياسمين الذين سوف يحاولون أن يغيِِّّروا ،وسيزرع الورد في حدائق وبساتين الوطن.
لوَّح ركاب السفينة للسفينة القادمة، محمود العقاد، محمود درويش، نجيب محفوظ، مي زيادة ،توفيق الحكيم، وأحمد مطر.
وقالوا بحماس: "أملنا بالسفينة القادمة."
بقلم: الكاتب ماهر دعبول