عندما تحدثت هيباتيا



الاسكندرية اليوم باردة الطقس وكئيبة والغيوم الرمادية تغطي سفح السماء والناس يمرون وينظر بعضهم إلى بعض.
أحدهم يشفقُ والأخرُ يبصق وبعض تلامذتي يبكي ويسير في طريقه.
مسحتُ عيني من بعض الدماء بعد أن شجو رأسي والدم يسيل مخترقاً جبيني المسخن بالجراح.
من يقنعهم أن هيباتيا ليست نبية أو رسولة فما هي إلا فيلسوفة..

قضيتُ كل عمري ساعية لفهم أسرار الكون والبحث عن المعرفة وها أنا اليوم مقيدة اليدين مرميةٌ قرب أحد أعمدة الاسكندرية الكبيرة الرخامية.

مرَ كثير من الأطفال الذين كانوا يرموني بالحجارة ويشتموني، أعرف أنهم لا يدركون ما يفعلون وأعلم أن الأيام ستجعل منهم أشخاصاً طيبين.

كل حجر يرتطم بي فتدوي في قلبي مأساة الخذلان، عملتُ لخدمتهم وحاولتُ دوماً البحث عن حلول لمشاكلهم وهم اليوم يرجموني ويكسرون عظمي.

ذاك الطفل ينظر إليَّ ويسخر ويلعب مع أصدقائه لعبة رماية الأحجار من منهم يتمكن من إصابتي.

فقط طفلٌ واحد كان ينظر إليَّ وتدمعُ عينيه، ينظر للسماء وللأرض ويطيل النظر إلي بعدها لم يشتمني ولم يمسك حجراً.

وعندما أُنهك أصدقائه اقترب مني وهو خائف.
وصل لقربي ولمس جبيني ومد يده في جيبه ظننته سيخرج حجراً أو سكيناً لكنه أخرج منديلاً ومسح عن جبيني الدماء.

 وقال لي: لا تحزني يا هيباتيا، المعرفة ستزهر حتماً.

ومد يده مرة أخرى وأخرج بعض الرطب واطعمني بيده.
سألته: لِمَ تفعل ذلك، ألا تعرف أني هيباتيا؟
-   نعم، ولذلك، أفعل لأنك هيباتيا.
-  ماذا تعرف عن هيباتيا؟
-  إنها ابنة المعرفة.
- من أنتَ؟
- أنا ابن الحياة يا هيباتيا، انصحيني.

- حسناً، سأحاول، اسمع يا بني، وتذكر فالفكرة طوق النجاة والعقل أداة الفكر والنظر وسيلتنا نحو الاستبصار، من استبصر أبصر، ومن غفى عقله جفت مقلتي فكره، فأمعن العقل واستشر الروح حين يعظم الأمر فالروح أعمق وأقدر إن حلقتْ في فضاء الكون.
لكن يا بني احذر فأن تعرف أكثر يعني أن تتألم أكثر وأعلم لذة المعرفة أكبر من لذة الألم.

- هيباتيا قولي "كيف أصبح فيلسوفاً"؟
- ابحث عن الحقيقة.
- وأين أجد الحقيقة يا هيباتيا؟
- الحقيقة داخلك، أبحث في ذاتك.
- سيقتلونك يا هيباتيا، كيف ألقاك كي أعرف أكثر؟
- اقرأ لتعرف وأراك يوماً ما أو حين لا يبقى أي يوم.
- أين يذهب الإنسان بعد الموت؟
- لا نستطيع أن ندرك إلى أين سيأخذنا الموت لكنه حتماً مكان أكثر يقين من الحياة.
 - رعاكِ الله يا معلمتنا.
- ما اسمك أيها الفتى؟
- أنا تلميذك قدمتُ من عصر غابت فيه المعرفة وظهرت فيه المعلومة.
عصر يبحث فيه الناس عن المال والدماء والشهوة ويهجرون الفكر والفلسفة.
- إنه الإنسان إذا ملئ قلبه الكِبر أخطأ.
- كيف سيقتلونك يا معلمتنا؟
- ليس مهماً كيف سيتم ذلك، فالموت هو الموت وإن تعددت الأسباب والطرق.
- كيف أنقذك منهم يا سيدتي؟
- لن تنقذ جسدي، أنقذ روحي بالمعرفة.
- هل أقدم لكِ شيئا ما؟ 
- نعم، اقترب يا بني، عمرك اليوم خمس سنوات، عندما تكبر أخبر أبناء عصرك أن المعرفة هي معرفة الذات من لم يدرك نفسه لم يدرك شيئا.
- شكرا يا معلمتي.
- اذهب يا بني بسرعة قبل أن يأتوا فيصيبك منهم مكروه.
 
ركض الطفل نحو البلاد التي تنتظر اليقين فهناك سيحل اليقين وكلام الفكر. 
- وداعا يا ابنة المعرفة.
- إلى اللقاء يا ابن الحياة والحرب.

ذهب هذا الفتى وجلست أتذكر كلماته عندما تحدث عن عصر المعلومة التي تضيع فيها المعرفة أي حياة سيعيشونها بدون معرفة وهم يقاسون ضراوة المعلومات.
وانتظرت قدوم الموت على أيدي الرجال الذين أشفقت عليهم فهم لا يعرفون من يقتلون وكيف يقتلون.
وغفوت فالنوم بعضٌ الموت..


بقلم: ماهر دعبول


ملاحظة: القصة تحاكي قصة الفيلسوفة هيباتيا.

إرسال تعليق

أحدث أقدم