كيف كبرتُ كاتبًا؟ | ماهر دعبول



الطفل في بطن أمه يدرك من الكون إحساسه به، فكل الكون عنده صوت أمه وتقلبات جسدها وإحساسه بهذا الكون الصغير الدافئ كان يشكل لديه كل ما يشعر به من لذة أو ألم.

ولد فكبر كونه وصار عصي عليه فهمه بسرعة وسليقة ومع الوقت وبمساعدة والديه صار يدرك الكون بشكل أفضل.
يميز اسمه و يعرف اللغة وصارت اللغة وسيلته الأهم للتعبير عن مشاعره ومكنوناته وحاجاته وكما صارت اللغة بالنسبة لهذا الطفل وسيلة معرفية لطرح الإسئلة.
كانت لغته بسيطة وما لديه من المفردات يكاد لا يتجاوز ٢٠٠ كلمة.

دخل إلى المدرسة وبدأت المدرسة تطور في لغته وبدأ يسمع نمطاً جديد من اللغة وهي اللغة الفصحى وفي الصف الثالث وبعد أن كبرت قليلاً مساحة مفرداته قرر أن يكتب أنشودة.

كتب أنشودة من إحدى عشر كلمة اختلطت فيها الألفاظ العامية بالألفاظ الفصيحة البسيطة لم يكن بإمكانه حينها أن يكتب أكثر من ذلك لضعف لغته وعجزها عن التعبير عن مكنوناته العاطفية لكنه أعجب بنفسه واستمر يكتب نصوص بسيطة قصيرة سنسميها نصوصاً طفلة.

وفي الصف الخامس اشترى له والده مجموعة من القصص التي كانت تسرد قصص الأنبياء و قصص كلاسيكية فذاق هذا الطفل لذة القراءة واكتشف أن بإمكانه العيش في عالم أخر وفي قصة أخرى إذا فتح الكتاب وغاص في سطوره.

واستمر يقرأ قصص الأطفال حتى أُشبعت دواخله منها واكتفى منها وصار نهمه في القراءة يطلب منه مستوى مختلف من الكتب .
فلغته اليوم صارت أفضل ومفرادته أوسع و خياله نمى وكبر وصار بينه وبين الورق علاقة ود.

نظر في مكتبة والده فوجد مجلدًا ضخمًا , فتحه وفي أول قصة فيه قرأ عن شهرزاد وشهريار فأدهشت القصة خياله ووجد نفسه في عالم من جمال الخيال والكلمات يعود به إلى الماضي ليبحر قليلاً مع هذه الأوراق الصفراء.

قضى هذا الفتى الذي يبلغ من العمر اليوم سن البراعم سنة كاملة في مجلدات "ألف ليلة و ليلة " صقلت لغته وطورت خياله وحفظ فيها الشعر و قرأ فيها القصص وعرف فيها فن المراسلات.

وبعد هذا العام، أحس الفتى بالجوع للقراءة وصارت كتابته أكثر نوعية عن ذي قبل وبعد فترة من جوع الورق وجد نفسه في المكتبة كالطفل يكتشف العالم.

الكثير من العناوين و المؤلفين الذين لا يعرفهم فماذا يختار؟؟

لقد اختار الأكثر شهرة نزار قباني وجبران خليل جبران اشترى بعض الدواوين للكبير القباني و خمسة كتب لجبران.

وبدأ المسيرة التي لم تنتهي لليوم.

صار يقرأ و يقرأ ويكتب بعض الكتابات والقصص التي كان يمزقها بعد فترة لعدم رضاه عن مستواها وبعد عام لا يقاس إلا بالورق قرر الكتابة.

لكن كان قراره هذه المرة مختلفا فقرر أن يكتب رواية أخذت من وقته وجهده وخياله وعواطفه فكتب رواية لم ينشرها لأنه أحس بعد عام من الكلمات بضعف مستواها وطفولة كلماتها وتعبيرها.

واستمر هذا الشاب يقرأ بعد أن صار في الجامعة يدرس الفلسفة ويقرأ لفحول فلاسفة اليونان ولقامات العصور الوسطى وكبار فلاسفة العرب واستمرت القراءة صار خياله دفاقاً 
وفي داخله شجرة تريد أن تكبر لتثمر يوماً قريبًا..

كانت القراءة ماء يسقي دواخله حتى تكبر فيه شجرة الكتابة لتثمر أدبا.

لا أحد يولد كاتباً 
فالكتابة جهد قراءة وتأمل..
الكتابة جهد إبداع..

بعد أعوام من الورق وعندما طحنت الحرب بلاده" سوريا "  حينها كان الموت في السوق زوفي حفلات المدرسة وفي صلاة الجمعة و في سرير النائمين.

كانت المأساة عصية عن الفهم وكان دمار بلد كامل صدمة لم يستفق منها أحد..

وعندما صار جرح سوريا وادياً من الألم وصار صوت عويل الأيامى دويًا من ملامة قرر أن يسخر قلمه ليحمل الألم من الواقع المدمى إلى الورق لتكون الكلمات سيفاً يُسخر في خدمة الناس وقلماً يمجد صمود شعب.

القلم بلا قضية هو قصبة خشب 
والورق بلا نضال قصعة لا نفع فيها.

كان هذا الشاب أنا..

ماهر دعبول 
كتبت حينها روايتي حصار عبق ليكون القلم فسحة الهدوء في جنون الموت الذي لم يرحم أحد.

في حصار عبق كرستُ جل فكري وخيالي لأصور للعالم ما حصل في سوريا وكان هاجسي الأساسي أن أكون بعيداً عن التكلف  موجزاً وواقعياً  أسرد الحقيقة بقالب أدبي سلس يستطيع الناس فهمه ويصل إلى أكبر شريحة من الناس.

كانت الكتابة متعبة جداً وخاصة أن تكتب عن جرحك
جرحُُ يؤلمك أنت.

وعندما انتهيت , كان عائق النشر كبيراً جداً 
وخاصة على من يعيش في سوريا وضمن مناطق لا تجد فيها مكتبة حتى فكيف تجد فيها دار نشر.

وكان القرار الأصعب "النشر الإلكتروني" نُشِرَت هذه الرواية إلكترونياً و كانت المفاجأة وبعد شهرين من النشر وصل عدد التحميلات إلى رقم لم أتوقعه أبدأ
استمرت الرواية بالانتشار ومع الوقت طُبعت..

أنصحكم أخوة لغتي وأشقاء هوسي الكتابي:

الحلم يبدأ بخطوة وينتهي بإنجاز 
فاخطو خطوة نحو حلمك 
افتح كتاباً عن الأدب  
اقرأ رواية
اقرأ شعراً 
أكتب و أكتب.

لن تكون كاتباً من أول يوم في حياتك 
كل كتبنا فيها أخطاء وحده كتاب الله لاريب فيه.
تحتاج أن تصقل لغتك بالقراءة و تنمي خبرتك بالحياة و تعرف عن التاريخ و الحياة و الفلسفة و الدين.

لست كاتباً إن لم تخرج من الناس و للناس وتقف عند همومهم ونضالهم ويكون قلمك جذوة تضيء ليلهم ليعبروا الطريق نحو حضارة أسمى وحياة أرقى.

النصيحة الأهم لا تكتب لتكون مشهوراً أكتب لأن الكتابة فعل حياة واقرأ لأن سفينة الكتابة لن تبحر إلا في بحر القراءة والتأمل.

كيف تكبر كاتبًا
لافتة ثقافية

بقلم: ماهر دعبول


2 تعليقات

أحدث أقدم