القصة
طويلة، لا أدري على سبيل اليقين متى بدأت، ولكني أدرك دون شك متى انتهت. والآن،
وبعد مرور أشهر على الحدث الأكبر، وجد قلبي متسعًا من التحمل لأكتب.
تحررت
سوريا، ولم يكن التحرر حدثًا عابرًا، فهو أكبر حدث سياسي وإنساني ونفسي واجتماعي
ووطني وديني عاصره الشعب السوري بعد اندلاع الثورة السورية.
بهجة
عشناها، وأمل تفجَّر في صدورنا، واستمر منذ اليوم الأول لمعركة التحرير وحتى يوم
السقوط.
لكن،
وفي لحظة ما، وجدنا ذكرياتنا تنتظرنا. بعد 14 عامًا من الثورة، وجدنا في ماضينا
ركامًا كبيرًا لم يُكنَس بعد، وأشلاء أحبائنا لم تُدفن داخلنا بعد، وصوت المعتقلين
ما زال يندّه ويزن في عقولنا:
ابحثوا
عنا.
والله
بحثنا ولم نجدكم،
وأمٌّ
تبكي في ساحة كبيرة تبحث عن عظام ابنها الذي مات أملُ عودته.
كان
يوم التحرير وما بعده خليطًا عجيبًا من الألم والأمل، ومن الضحكة والدمعة،
والانتصار والهزيمة.
كان
السؤال يُلحّ في بيوتنا: "هل فتحوا كل السجون؟" وكانت الإجابة
بنعم تفتح خيمة عزاء.
وتحوَّل
صوت الساروت، الذي كان يشحذ عزيمتنا، إلى ملح يوضع على جراحنا.
المدن
المهدَّمة، والخيام اليتيمة، والمفقودون الذين لن يعودوا، والشهداء الذين لم
نودّعهم، والقصف الذي ما زال وقعه داخلنا، وآثار التعذيب التي لم تبرأ، وآلام أخرى
عصيّة عن الكتابة.
أعلم
أن كل يوم بعد التحرير، مهما حصل، هو أجمل وأفضل وأنقى من أي يوم قبله، وأن المجد
والحرية والكرامة التي نملكها الآن هي ما كنا نحلم به منذ أعوام. ولكن يوم
التحرير، مع كل جماله وصدقه وعظمته، إلا أنه تركنا نواجه آلامنا التي تجاهلناها
لسنين.
أنا
لا أكتب هنا ما حدث بهدف التوثيق، وإنما أكتب ما شعرتُ به وشعر به من عاش التحرير
وانتظره.
نعم،
انتظرته كثيرًا، حتى تعبت، وفي لحظات ظننته لن يحصل، لكنه والحمد لله حصل.
إن
أيام التحرير كانت أيامًا عجيبة: نشوة النصر، خشوع الدعاء، تكبيرات تطوف البيوت
والشوارع، وشاشة الأخبار التي لا تنام، ودموع تنهمر بين فينة وأخرى.
حتى
وصلنا إلى تلك الليلة المباركة:
سقط.
عرفتُ
التحرير من ذاك الرجل الذي يبكي في شارع معتم وهو يقول: (سقط، سقط، كبّروا، زغلطوا،
دمشق النا)، وتكبيرات تعلو، وزغاريد النساء تستجيب له.
بالنسبة
لي، هذا الفيديو هو الرسمي لتحرير سوريا، ففيه مشاعري، كلماتي، حالتي وحالة كل
السوريين أيضًا.
خرجتُ
كما كل السوريين إلى الشوارع، شوارع إدلب التي كانت سوريا كلها فيها، لأبارك لجاري
الشامي عودة مدينته، الذي قابلني بالحلويات فرحًا.
الحموي،
والحمصي، والدرعاوي، والديري، وكل سوريا في شوارع إدلب تحتفل بالنصر.
إدلب:
تحت كل شجرة بطل، وفي كل منزل رسالة، وفي كل بيت حلم. إدلب، ومع بداية الثورة،
تحولت لمدينة السوريين جميعًا، حتى بيوتها لهم. كل حرٍّ يحط في إدلب، وإدلب تحط في
قلبه.
في كل قرية من قرى إدلب ستجد شارعًا لأهل حمص، وشارعًا لأهل حلب، وشارعًا لأهل الشام، ولكل المدن.
إدلب صارت أجمل بعد أن أتيتم إليها أيها الأحرار.
وفجأة
وجد السوريون أنفسهم تائهين في صور الخارجين من السجون بحثًا عن وجه أقربائهم،
ولكنهم لم يجدوهم، وظلّت الصور معلقة على جدار الحزن دون عزاء ودون قبر.
في
سوريا، تحلم الأم بقبر لابنها، تحلم بتراب يلمّ رفاته، وعن زيارة أخيرة لشاهدة
قبره، وحتى تبحث عن خبر يقين بأنه مات.
مات،
وانتهى الانتظار، وتعذّر اللقاء.
ما
زلتُ أسمع الساروت وهو يغني: "ودعت أمي على الباب".
وما
زلتُ أرى الشجاعة والصدق في فيديوهات "عبد القادر الصالح".
وما
زلتُ أشاهد مي سكاف وهي تقول: "إنها سوريا العظيمة".
وما
زلتُ أشاهد فدوى سليمان وهي تقف بين الجموع.
وما
زلتُ أحتفظ بصور القصف في هاتفي.
وأحتفظ
في ذاكرتي بقصص الضحايا الذين قابلتهم لسنين: طفلة أُصيبت في حلب بقصف مدرستها
وقُتلت معلمتها أمامها، وفتاة عشرينية بُترت يدها بقصف الطيران لمنزلها، وشاب فقد
قدمه، وأمٌّ تنتظر أبناءها الثلاثة المعتقلين في السجون، ورجل يسأل: ماتت زوجتي
وابني أُصيب، ماذا أفعل؟ هل أذهب لأدفن زوجتي أم أذهب لأسعف ابني؟
سنُربي
الحقد في صدورنا دهرًا، لا لأننا لا نستطيع الصفح، بل لأن الحقد هو وقودنا
وبوصلتنا كي لا تعود عقارب الساعة إلى الخلف، وإن عادت كسرناها.
هذه
الثورة صنعتنا. أنا امتداد لهذا الربيع، أنا منه وإليه.
معه
بدأت القصة، وبه انتهت.
هذه
السنين الأربعة عشر وسام على صدر كل نبيل وشريف، فمن لم يجده على صدره فليستغفر
ذنبه، وليعتذر من نفسه أولًا.
وفي
النهاية، السلام لكم، أنتم الذين عشتم هذه الثورة، من أحببتموها حقًا، من تألمتم
لها، من بكيتم على شهدائها، من سكنتم خيمة، من تركتم منزلًا، من ضحيتم حقًا لسنين
حتى وصلنا.
وختامها: الحمد لله، له الملك كله، إنه
الواحد القهار.
بقلم: ماهر دعبول